U3F1ZWV6ZTI0NjY0MjE3MzIzNzVfRnJlZTE1NTYwMzIxMDIxNDE=

طقوس من طفولتي : جني البطاطس




طقوس من طفولتي : جني البطاطس)
حين أستعيد أيام طفولتي، وأقارنها بما يعيشه أطفال اليوم، يظهر لي أننا كنا محظوظون ربما، رغم ما كان من عوز وحاجة، فالظروف  التي عشناها علمتنا كثيرا، ومنحت لنا فرصة لإغناء معارفنا بشكل ملموس في محيطنا، وتزويد ذاكرتنا بمعطيات نادرة، خاصة ما يتعلق بالتعاطي مع الطبيعة، والانغماس في مكوناتها من نكهات
وأذواق وألوان وغيرها.
من الطقوس التي ميزت طفولتي، طقس جني البطاطس، الذي قد يظهر للبعض عملا عاديا، إذ يذهب أفراد الأسرة إلى حقلهم لجني البطاطس، وتتم العملية بشكل بسيط، لكنها بالنسبة لي تعني الكثير، لقد بصمت ذكريات كثيرة في ذهني، تعود بين الفينة والأخرى حين أشتم رائحة، أو أتلذذ بطابق ما في المطبخ.
إذا كان يوم جني البطاطس بالنسبة لأبي وأمي يوما للكد والعمل، لجني مجهود خمسة أشهر ، في السقي ونزع الأعشاب الضارة، ورفع الأتربة على فروع نبات البطاطس، والحراسة، فإنه كان بالنسبة لنا كأطفال يوما للتسلية والاكتشاف، وننتظره بفارغ الصبر، ولهذا كنا نحرص على المشاركة  في نفس العملية مع جدنا من الأم أيضا.
من الأمور العالقة في  ذهني بهذا الخصوص، أن حقلا خاصا معروفا بتربته الغرينية الخصبة، هو الذي يزرع فيه والدي رحمه الله البطاطس، يسميه " تالهاديت" وهو تأنيث أمازيغي للهادي، ربما بسبب موقعه في مكان منبسط، ومن الصدف أنني في زيارة للقرية قبل سنوات، وبرفقة أخي لم أتذكر جيدا موقعها وحدودها، لقد بدت لي قطعة صغيرة، بينما الصورة التي سجلتها في ذاكرتي عنها مختلفة، كانت في ما مضى شاسعة تحتضن لعبي وشغبي وهرولتي، بينما اليوم أستطيع  أن أعبرها في خطوات.
كانت لدينا قطع أرضية أخرى، صغيرة طبعا، فمعظمها في ضفاف الأودية، تارة تغمرها مياه الفيضانات وتفسد محاصيلها بما تحمله من رمال وأحجار، وتارة أخرى ننعم بجني محصول أو محصولين، قبل أن يعيد الواد الكرة مرة أخرى. ولهذا كانت معظم أوقات والدي حين يكون في القرية، مرتبطة بالتسييج والبحث عن التربة الخصبة، بإزالة الأحجار و الرمال، والتسميد.
كان جني البطاطس يتم بطريقة تقليدية، حيث تستعمل الفؤوس لإزالة التربة وجمع حبات البطاطس، كانت سعادتي أبي تكتمل حين يصادف حبة كبيرة الحجم، لا زلت أتذكر ابتسامته، وجبينه يتصبب عرقا، كان يقول لنا إنها" سبونتا"، وهو نوع خاص من البطاطس، كان فخورا بعمله، وبالنتيجة التي حصل عليها، فبالنسبة إليه حين تتوفر البطاطس، يضمن أننا لن نموت جوعا.
تستمر العملية لساعات، وبينما ينهمك أبي وأمي في عملية الحفر والجمع، نتسلل أنا وأخي إلى غابة مجاورة، ونجلب أخشابا يابسة، لكي نشعل النار، ونكون حريصين على جلب عود الثقاب من المنزل، أو نبحث عنه في الحقول لدى أحد المدخنين.
نشعل النار بالأخشاب بعدما نكون قد عزلنا حبات البطاطس التي سنطهوها، تحت التراب، كان الأبوان يحرصان على أن نختار  الحبات الصغيرة، لسبببن، أولهما سهولة طهيها، وثانيهما، لكي نحتفظ بالحبات الكبيرة للتخزين. بعدما نشعل النار، نبني حولها سورا  صغيرا من قطع التراب المتصلبة( أطوبن)، وننتظر حتى تصبح تلك القطع سوداء ويظهر عليها الاحمرار، ثم نزيل ما تبقى من جمر ورماد وتراب ساخن، ونحفر حفرة في الأرض مكانها ونضع البطاطس بها، ونغطيها بالتراب الساخن، ثم نفتت القطع التي بنينا بها السور الصغير، ونشعل فوق الكل النار من جديد لكي تستمر الحرارة المرتفعة فوق البطاطس، ونعود لمساعدة الوالدين في باقي العمليات بما فيها ملء الأكياس بالبطاطس، وجلب الماء، أو التنزه في الوادي.
ننتظر ما يقارب ساعة من الزمن، لكي نطل على الوجبة، بعدما نتأكد من نضجها، وطبعا بعدما تأتي الإشارة من أحد الوالدين بحكم تجربتهما، ومعرفتهما للزمن الذي يتطلبه نضج البطاطس. وحين نقوم بعملية الحفر، باستعمال قطعة خشبية تجنبا للاحتراق، يحدث أن تصيب تلك القطعة حبة البطاطس وتقسمها إلى أجزاء، لتتخاطفها الأيدي، وتؤكل ساخنة، وبعدما ننتهي من جمع تلك الحبات تحت الرماد والتراب، نجمعها، ويحضر الأبوان للقيام بعملية التقسيم بشكل عادل، وتبدأ عملية التقشير رغم الحرارة المرتفعة للبطاطس، ولا ننسى جلب الملح، لأنه يضيف إليها لذة لا تقاوم، ولأن الأيدي تكون متسخة، والبطاطس تكون قد أخذت لون التراب والرماد، وبعضها يكون قد احترق وأخذ اللون الأسود، فإن البياض الموجود داخل البطاطس لم أراه منذ تلك الأيام، ولكي أسقط الطائرة في السينما فإن هذه الذكرى حببت إلي كثيرا فيلم " حصان تيران" للمخرج الهنغاري بيلا تار.
محمد زروال .
Aucun commentaire
Enregistrer un commentaire

Enregistrer un commentaire

NomE-mailMessage

Rechercher dans ce blog